المادة    
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
[ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً.
قال المصنف رحمه الله:
قال تعالى: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125]، وقال تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164].
الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين؛ زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بـواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحايكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً.
وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك.
وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب؛ كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني            ولذا سمي الخليل خليلا
]
الشرح:
يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: "ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً" هذه الواو عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجمل والاعتقادات السابقة.
وقوله: "ونقول" القول في هذه المواضع معناه الاعتقاد وليس مجرد النطق، يعني: ونعتقد وندين لله تبارك وتعالى بهذا، وهو أن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم خليلاً.
والقول يطلق في أبواب العقائد على الاعتقاد، والمقالة تطلق على المعتقد، فلهذا نجد أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله لما كتب كتابه في عقائد الفرق والطوائف، سماه مقالات الإسلاميين، يعني: معتقدات الفرق الإسلامية، فتبين من ذلك أنه ليس مجرد النطق باللسان، وكما هو معلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، ومعنى (قول وعمل) أي: اعتقاد وامتثال، يعتقد بقلبه، ويقول بقلبه وبلسانه، ويمتثل أيضاً بقلبه وبلسانه وبجوارحه، ولهذا إذا فصلنا نقول: هو قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح على ما سنفصله إن شاء الله في موضوع الإيمان، ويأتي بعد، فإذاً: معنى: (نقول) أي: نعتقد نحن أهل السنة والجماعة من العقائد زيادة على ما سبق: المحبة لله.
وكلام المؤلف يشتمل على موضوعين:
الأول: أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وهو موضوع المحبة.
والموضوع الثاني: مأخوذ من قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164] وهو موضوع الكلام، والكلام قد تقدم.
ونجمل الكلام فيه هنا.
  1. حقيقة المحبة ومنزلتها من أعمال القلوب والأبدان

    فالموضوع الأول: إثبات صفة المحبة وبيان قيمة المحبة لله سبحانه وتعالى، وهي أنه سبحانه وتعالى يُحِب ويُحَب، وقد خالف في ذلك من خالف، وكتب في ذلك العلماء رحمهم الله ورضي عنهم، ومن خير من كتب في ذلك ومن أجوده وأجمعه: ما كتبه العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين حول منزلة المحبة، ولهذا أردت أن أستعرض شيئاً منها، لتكون بمنزلة المقدمة في شرح هذه الفقرة، ولنعرف أهمية المحبة بالنسبة للأعمال الإيمانية، وكذلك منزلتها بالنسبة للعقيدة، أي ما يتعلق بإثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، وبيان غلط وفحش وسوء قول من قال: إن الله تعالى لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، وما يوقع فيه هذا الخطأ من الانحراف والضلالات.
    ونحن أحوج ما نكون إلى أن نعرف حقيقة المحبة، ولا سيما ونحن في عصر الجفاف القلبي، وعصر الغلظة وقسوة القلب، بسبب ما نرى ونسمع، وما يخالج قلوبنا من الفتن والشكوك، والشهوات وزخارف الحياة الدنيا.
    يبين ابن القيم رحمه الله حقيقة هذه المنزلة على طريقته بالأسلوب الأدبي الرفيع الجميل، الذي يستثير الوجدان والعاطفة نحو هذه المنزلة -وذلك في (ج3/ص8)- فيقول: "ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة المحبة، وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال؛ التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب" كما قال:
    فحيَّ على جنات عدن فإنها            منازلنا الأولى وفيها المخيم
    فالمنازل الأولى هي جنات النعيم، حيث أسكن الله فيها آدم وزوجه، ثم كانت المعصية، وكانت الحكمة والابتلاء وأن ينزل إلى هذا التراب.
    ثم قال: "تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدَّر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة: أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة!
    تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون، وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
    من لي بمثل سيرك المدلل            تمشي رويداً وتجي في الأول"
    هذا حال أصحاب القلوب المحبة لله ولطاعة الله سبحانه وتعالى؛ حباً مقترناً بخشيته وإجلاله والحياء منه عز وجل، هؤلاء هم الذين يمشون الهوينى ويسبقون الساعين، كما قال الشاعر:
    من لي بمثل سيرك المدلل            تمشي رويداً وتجي في الأول
    وقد أشار رحمه الله في الفوائد إلى أن الصحابة الكرام ما سبقوا من بعدهم بكثرة الصلاة والقيام، وإنما سبقوهم بالإيمان. يقول رحمه الله: "يا عجباً لنوم الأكياس وفطرهم! كيف سبقوا به صيام الحمقى وقيامهم" يعني: أن كل من جاء بعدهم بالنسبة لهم، فهو كالأحمق بالنسبة إلى الكيِّس، لأن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم عرفوا كيف يمشون رويداً ويجيئون في الأول، وكيف أن درهمهم يسبق ألف درهم ممن بعدهم، وأن التسبيحة الواحدة منهم تزن عبادات كثيرة ممن بعدهم، كل ذلك لأن الله تعالى فتح لهم هذا الينبوع العظيم من محبته وإجلاله واستشعار العبودية الحقة له تبارك وتعالى، فبذلك فازوا، وإلا فقد جاء من التابعين من يقوم الليل ويقرأ من القرآن أكثر منهم، لكن أين الثرى من الثريا؟! وكل على خير، لكنّ أولئك السابقين لو أنفق من بعدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه.
  2. فرقان المحبة وآية صدقها

    يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى"، فالمحبة كل يدعيها، حتى البراهمة والبوذيون والنصارى، كلهم يقولون: نحن نحب الله، ولذلك يضحون بالأموال والأولاد والزوجات، ويهيمون في الغابات عراة، بدافع محبة الاتحاد بالإله (براهما)، لتتصل أرواحهم به كما يزعمون.
    قال رحمه الله: "فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي" يعني: كما أننا في جانب الأحكام والقضاء نعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: {لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر}، فلابد من البينات، فما البينة في باب الإيمانيات والعبادة؟
    قال: "فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31]" هذه هي البينة، وبغير هذه البينة فالدعوى باطلة، فليدع من شاء ما شاء، لا نقبل دعواه إلا بالاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ))[آل عمران:31] أي: إن زعمتم ذلك فاتبعوني، وكل من بعث فيهم صلى الله عليه وسلم يدَّعون ذلك، لا أحد يقول: أنا أكره الله، حتى كفار قريش يعظمون بيت الله، ويطعمون الحجاج، ويسقونهم، وحتى النصارى واليهود: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ))[المائدة:18] فالدعاوى كثيرة، لكن: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي))[آل عمران:31] ونتيجة ذلك: ((يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31]، فلا تكون النتيجة أنكم صادقون في المحبة فقط، بل تكون النتيجة أن الله تعالى يحبكم؛ فتكون المحبة من الطرفين من جهة أنكم أحببتموه فأحبكم بسبب اتباعكم للنبي صلى الله عليه وسلم.
    قال: "فتأخر الخلق كلهم" وانظر كيف يصور القضية: "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب" صلى الله عليه وسلم، وممن يدخل في هذا التأخر البوذيون والنصارى واليهود والمشركون، لأنه ليس عندهم بينة.
    "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة"، وهذا تصوير بديع، وأسلوب رفيع، فهؤلاء الشهود لابد من تزكيتهم، لتعرف عدالتهم.
    قال: "فطولبوا بعدالة البينة بتزكية: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]" يشير رحمه الله إلى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ))[المائدة:54] ما صفتهم?!
    ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))[المائدة:54] هذه أول صفة لهم.
    والثانية: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ))[المائدة:54].
    والثالثة: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]
    قال: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون" ففي المرة الأولى تأخر كل الخلق إلا الأتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي المرة التالية تأخَّر أكثر المحبين، وبقي المجاهدون، والجهاد هنا بمعناه العام الذي منه الجهاد بالسيف، ومنه الجهاد الكبير (جهاد الدعوة) قال تعالى: ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا))[الفرقان:52] هؤلاء المجاهدون هم القائمون بأمر الله، الوارثون لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم"، إنما هي لمن يحبون، إن كانوا صادقين على الحقيقة في الحب، ولذا قيل لهم: "فهلموا أيها المجاهدون إلى بيعة: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ))[التوبة:111].
    فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأناً. فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس. فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار. وقالوا: (والله لا نقيلك ولا نستقيلك).
    فلما تم البيع وسلموا المبيع، قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معاً (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ))[آل عمران:169-170]."